المصاحف والتراويح في رمضان
- الأخبار
- 14 أبريل 2024
- d M Y
- 8 مشاهدة


بقلم اابراهيم الفرجاني
جناية حامل المصحف على القبلة
قُدِّر لي في رمضان هذا أن أدور على مساجد عديدة في إيطاليا، وكانت بحق تجربة ثرية، من أحسن ما أفدت منها هو لقاء الإخوان وزيارة بيوت الله ومشاهدة عادات المساجد عن قرب واتفاقها أحيانًا واختلافها أحيانًا أخرى. لكن المظهر الذي أفزعني وأحزنني هو أنني نادرًا ما دخلت مسجدًا إلا ورأيت حامل المصحف يتوسط القبلة منتظرًا أن يؤدي وظيفته في تلقين الإمام طوال صلاة التروايح، فإذا ما حضرَتْ الصلاة واصطف الناس صفوفًا خلف إمامهم وجدت الإمام أو الشاب المراهق الذي اختاروه ليصلي بهم وجدته يتقدم بلا خجل يسوي صحائف مصحفه ثم يبدأ في إمامة الناس قراءةً من المصحف، ثم لا بأس أثناء الصلاة أن يتقدم خطوة أو يتأخر خطوتين قربًا أو بعدًا من المصحف مقلبًا صفحاته مدققًا النظر في سطوره حتى لا تضيع منه الكلمات فيخطئ وهو إلى المصحف ناظر! ثم لا يفوته كذلك إن كان يسجل صورة أو يبث بثًّا مباشرًا أن يبعد المصحف عن الكاميرا حتى لا يظهر أن الإمام يقرأ نظرًا وأنه غير حافظ، أو ربما يمسك بالهاتف في يده وبعضهم يمسك مصحفًا صغيرًا يجتهد في إخفائه حتى عن من خلفه حتى لا يظهر أن إمامهم غير حافظ فهو أمر يُخجَل منه دون ريب.
ألهذا الحد صارت القاعدة استثناءً وصار الاستثناء قاعدة؟! فالقاعدة أنه لا يتقدم للإمامة إلا حافظ، والقاعدة أن الناس يبحثون عن أحفظهم وأتقنهم فيقدمونه للإمامة. وعلى هذا كان الناس يتنافسون في حفظ كتاب الله ويتصدر الحافظ منهم للإمامة حتى ولو لم يبلغ الحلم بعد، وكان الحفاظ يجتهدون طوال العام في إتقان حفظهم ومراجعته تحسبًا لوقفة الإمامة وهيبتها حيث يسرد القرآن سردًا لا وقت للتوقف أو الاستدراك.
نعم كانت هذه هي القاعدة في المساجد الكبرى والصغرى، حتى ظهرت في الناس عادتان إحداهما حسنة جميلة والأخرى سيئة ظاهرة، أما الأولى فهي الحرص على ختم كتاب الله كاملًا في التراويح، وأما الأخرى فهو البحث عن إمام أو شاب حسن الصوت حتى ولولم يتقن الحفظ أو الأحكام، وصار الشباب بدل أن يتباروا في الحفظ والإتقان يتبارون في تقليد فلان أو فلان من مشاهير القراء، فصرت تسمع ألف مشاري راشد وألف سديس وألف معيقلي وألف وألف، لا يهم الآن الحفظ أو إتقان الأحكام، المهم مدى إتقانه لتقليد فلان أو فلان من القراء، والأمر بسيط ففي النهاية سيؤم الناس من مصحف أو هاتف، وسيسمع من هنا ومن هناك كلمات المدح والثناء التي معها يطيش عقله ويطير فؤاده ويتيقن من حسن مسلكه وصحة صنيعه. وكأني برسول الله ﷺ يعني هؤلاء بقوله: بادِرُوا بِالأعمالِ خِصالا سِتًّا: إمارةُ السفهاءِ ، وكَثْرَةُ الشُّرَطِ، وقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وبَيْعُ الحُكْمِ، واستخفافًا بِالدَّمِ، ونَشْوٌ يَتَّخِذُونَ القرآنَ مَزَامِيَرًا، يُقَدِّمُونَ الرجلَ ليس بأفقهِهِمْ ولا َأعْلَمِهِمْ، مايُقَدِّمُونَهُ إلَّا لِيُغَنِّيَهُمْ.
نعم صار الاستثناء قاعدة، فبعض هؤلاء حين يعترض عليهم في إمامتهم الناس من المصحف يحتج عليك بأحاديث وآثار مثل أن غلامًا لعائشة كان يؤمها من المصحف في رمضان، أو قول ابن شهاب الزهري: كان خيارنا يقرؤون في المصاحف في رمضان. ونسوا أو تناسوا أن هذا عند من أجازه من الأئمة وهم مالك والشافعي وأحمد مشروط عندهم بالضرورة وبعدم وجود الحافظ، أما عند وجود الحافظ فالكل متفق أنه أولى بالتقديم وهذا وإن لم ينقل عنهم نقلًا فهو مفهوم آرائهم عقلًا، كيف وقد جاءت الآثار عن بعضهم بذلك! فقد نقل ابن قدامة في المغني أن الإمام أحمد سئل عن الإمامة من المصحف في رمضان؟ فقال: إذا اضطر لذلك. وروى ابن أبي شيبة في المصنف بسنده عن الحسن قال: لا بأس أن يؤم في المصحف إذا لم يجد، يعني من يقرأ ظاهرًا. هذا وقد شدد الأحناف وأهل الظاهر في فقههم على (حرمة القراءة من المصحف في الصلاة) وأن ذلك (مبطل لها) لا فرق عندهم بين فرضها ونفلها، قال ابن حزم في المحلى: ولا يحل لأحد أن يؤم وهو ينظر ما يقرأ به في المصحف، لا في فريضة ولا نافلة؛ فإن فعل عالمًا بأن ذلك لا يجوز بطلت صلاته وصلاة من ائتم به عالمًا بحاله عالمًا بأن ذلك لا يجوز. قال علي (هو ابن حزم نفسه): من لا يحفظ القرآن فلم يكلفه الله تعالى قراءةَ مالا يحفظ؛ لأنه ليس ذلك في وسعه. إلى أن قال: ونظره في المصحف عمل لم يأت بإباحته في الصلاة نص. وقد قال ـ عليه السلام ـ ((إن في الصلاة لشغلًا)). وفي كتاب (إعلاء السنن للتهانوي) وهو موسوعة ضخمة في جمع أدلة مذهب أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ باب بعنوان: باب (فساد الصلاة بالقراءة من المصحف). أورد فيه حديث رفاعة بن رافع الذي رواه أبو داوود والترمذي وقال: حديث حسن، وفيه أن رسول الله ﷺ علَّم رجلًا الصلاة فقال: ((إن كان معك قرآن فاقرأه، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله ثم اركع)). وأرود حديثًا آخر بنفس المعنى ثم قال: فيهما دلالة على أن من كان معه قرآن قرأ ما تيسر منه، وإلا فإن عجز عن تعلمه وحفظه بقدر ما يجوز به الصلاة انتقل إلى الذكر ما دام عاجزًا، ولم يقل أحد من الأئمة فيما علمنا بوجوب القراءة عليه من المصحف. فنقول: لو كانت القراءة منه مباحة في الصلاة غير مفسدة لها كما زعمه بعضهم لكان ذلك واجبًا على العاجز عن الحفظ، لكونه قادرًا على القراءة من وجه غير عاجز عنها. ثم أورد أثرًا عن ابن عباس قال: نهانا أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ أن نؤم الناس في المصحف، ونهانا أن يؤمنا إلا المحتلم. ثم قال: والحديث وإن لم نقف له على سند ولكنه متأيد بالقياس الصحيح؛ لأن القراءة من المصحف تلقن منه، فصار كما إذا تلقن من غيره، والتعليم والتعلم ينافي الصلاة، وأيضًا: فإن حمل المصحف والنظر فيه وتقليب الأوراق عمل كثير وهو مفسد.
وقد أورد ابن أبي شيبة في المصنف جملة من الآثار لمن كره من الأئمة القراءة من المصحف في الصلاة فأخرج بسنده عن الأعمش عن إبراهيم أنه كره أن يؤم الرجل في المصحف كراهة أن يتشبهوا بأهل الكتاب. وعن مجاهد أنه كان يكره أن يؤم الرجل في المصحف. وعن الحسن أنه كرهه وقال: هكذا تفعل النصارى. وقال: حدثنا أبو داوود عن شعبة عن حماد وقتادة في رجل يؤم القوم في رمضان في المصحف، فكرهاه. وفي المغني لابن قدامة قال الإمام أحمد: قد كان بمكة يوكلون رجلًا يكتب ما ترك الإمام من الحروف وغيرها، فإذا كان ليلة الختمة أعادها، وإنما استحب ذلك لتتم الختمة ويكمل الثواب. فتأمل هنا لو كان الأمر بسيطًا لِمَ يتكلفون هذا إذا كان بإمكانهم أن يضعوا مصحفًا أمام الإمام يصلي منه وانتهى الأمر!
وحتى لو رجعنا إلى الأثرين الذين يكثر الاستدلال بهما في جواز صلاة الإمام من المصحف في صلاة التراويح، لوجدنا أثر السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ يتحدث عن صلاة في بيت ولضرورة عدم وجود الحافظ من أهل البيت، فكيف يؤخذ هذا دليلًا على جعل هذا الأمر شائعًا في المساجد لدرجة أنه أصبح كأنه هو الطبيعي المتوارث من لدن أجيال الأمة جيلًا بعد جيل! وحين يقول ابن شهاب الزهري أن خيارنا كانوا يقرؤون من المصاحف في رمضان. فإنه لا شك أن خيارهم هؤلاء كانوا من العلماء الراسخين الذين كانوا يحفظون كتاب الله ويتقنون تلاوته وإنما لجؤوا للتلاوة من المصاحف لغرض ما ربما لمرض أو لكبر سن، ثم هو لم يبين هل كانوا أئمة أم مأمومين؟ وهل كانوا يصلون في بيوتهم أم مع الناس في المساجد؟ فقد صح عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يصلي وغلامه يمسك المصحف خلفه، فإذا تعايا في آية فتح عليه. وهذا صحابي حكيم عالم تربى في بيت النبوة على عينه ﷺ، فنكرر ونقول: لو كان الأمر بسيطًا إلى هذا الحد لِمَ لَمْ ينشر المصحف أمامه هو ويصلي منه بدل أن يكلف غلامه ويجعله يفتح عليه إذا التبست عليه الآيات!
وهذا عمر ـ رضي الله عنه ـ لما سنَّ جمعَ الناس لصلاة التراويح اختار لإمامتهم رجلًا من أعلم الصحابة بكتاب الله وممن اشتهروا بالعلم والإقراء هو أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ ولو كان الأمر بهذه البساطة لاختار على أساس الصوت الحسن ثم سمح للإمام أن يستعين بالمصحف كما يُفعل الآن في كثير من مساجدنا، كيف وقد ورد عنه النهي عن ذلك ـ رضي الله عنه ـ وذلك في أثر ابن عباس: نهانا أمير المؤمنين أن نؤم الناس في المصاحف. حتى ولو لم يصح عنه هذا النهي فاختياره لأبي بن كعب كافٍ في التعرف على شرطه ـ رضي الله عنه ـ في التراويح وإمامها.
لقد انتشرت تلك العادة السيئة في المساجد حتى أنك إذا دخلت مسجدًا ولم تجد إمامه يصلي التراويح من المصحف كأنك رأيت شيئًا نادرًا مستغربًا، وفي هذا من المآلات السيئة ما فيه! نجملها فيما يلي لعله أن يتذكر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد:
- أنه يؤدي إلى أن تفقد صلاة المسلمين سمة من أعظم مظاهرها وشيئًا عزيزًا من خصوصيتها التي خصها الله بها عن سائر صلوات الأمم قبلنا، وهو أن لا يُنشَر أمامهم كتاب يقرؤون فيه حال صلاتهم، بل يتقدمهم الحفاظ الذين يسردون القرآن من الصدور لا من السطور.
- قعود الحفاظ وتكاسلهم عن المراجعة والإتقان. بل انزواؤهم في جنبات المساجد وغير الحفاظ يؤمون ويتجرؤون ويتطاولون، وكم رأيت من حافظ متقن يصلي مجبرًا في الصفوف الخلفية وغير الحفاظ هم الأئمة المقدمون!
- قعود غير الحافظ عن الحفظ؛ لعلمه أنه في النهاية سيؤم من المصحف، حتى أن بعض الشباب ممن أُوكِلَتْ لهم الإمامة لحسن صوتهم، يظل يلعب على هاتفه حتى تقام الصلاة، ثم يقوم يؤم الناس من المصحف، لا يكلف نفسه حتى أن يراجع أو أن يتثبت من صحة التلاوة قبل الإمامة.
- تجرؤ بعض هؤلاء الشباب على ما هو أخطر من هذا وهو التلاوة بالروايات المختلفة دون إتقان لها بل حتى دون إتقان لرواية حفص الراوية الأشهر في العالم الإسلامي كله ـ وقد رأينا من هؤلاء العجب والله ـ.
- أن يظن الشباب وعامة الناس أن هذه هي القاعدة، وهي أن إمامة الناس في التراويح لا تكون إلا من المصحف، ولا يعرفون أن ذلك لا يسمح به إلا عند الضرورة أو الحاجة وعند عدم وجود الحافظ، وأن الأصل في الإمامة التلاوة عن ظهر قلب وليس تقليبًا ونظرًا.
- أن يُظن أن الأصل في الإمام هو الصوت الحسن وليس العلم أو الفقه وأساسهما هو حفظ كتاب الله وإتقان تلاوته في ماضي المسلمين وحاضرهم.
ختامًا: لم أرد بمقالي هذا أن أقلل من قدر أحد أو أن أسيء إلى أحد، ولم أرد نشره في رمضان حتى لا أحدث فتنة في المساجد، لكنها والله نصيحة مخلص لإدارات المساجد وأئمتها أن يبدؤوا من الآن في إعداد أنفسهم لرمضان القادم، فإذا أردت أن تكون إمامًا للتراويح فما الذي يمنعك من الجد والاجتهاد من الآن في متابعة حفظ كتاب الله وإتقانه حتى تكون بحق جديرًا بهذه المكانة التي شرفك الله بها، ولِمَ لا تنصح إدارات المساجد للإسلام والمسلمين فتختار الحفاظ وتقدمهم وتشترط على الإمام أن تكون تلاوته غيبًا لا من مصحف أمامه، نصحًا للأمة وحثًّا للشباب وتشجيعًا لهم على إتقان حفظ كتاب الله وإتقان تلاوته، وهو شأن لو يعلمون عظيم.