نيوزلندا نموذج فريد
- أخبار أوروبا , أخبار العالم , المسلمون في اوروبا
- 22 مارس 2019
- 13 تعليق
- 11807 مشاهدة


إمام المركز الثقافي الإسلامي ببريشا الشيخ/ أمين الحزمي
يكتب?…:
نيوزلندا .. نموذج فريد
قدم الإرهابي أسوأ ما عنده.. فردّ عليه النيوزلنديون بأجمل ما عندهم.
قدم الإرهابي مرتكب مجزرتي المسجدين في نيوزلندا أسوأ ما عنده مخلفاً 50 شهيداً وعشرات الجرحى ومن ورائهم مئات المكلومين من أهاليهم وأقاربهم وأصدقائهم ومن ورائهم مئات الملايين في أرجاء العالم من مختلف الشعوب والأديان والأعراق من المفجوعين بهذا العمل الوحشي البشع.
استمتع القاتل وهو يسمع الموسيقى في طريقه إلى المجزرة، أوغل في القتل، يستقبله أحد المصلين قائلاً: (مرحباً أخي) فيرد عليه بتصويب بندقيته عليه ليجعله أول ضحاياه، لم يغادر مسرح الجريمة حتى أيقن أنه قد أصاب كل أهدافه، تستنجد به مصابة في باب المسجد(ساعدني) وهي لا تظنه القاتل فيجهز عليها ، وأكمل مشهد الجريمة بتصويرها وبثها على المباشر متحدياً مشاعر العالم.
ترك وراءه مذكرات وكتابات مليئة بالكراهية مستدعية للتاريخ وأحقاده، مليئة بالتهديد والوعيد.
لكن في المقابل كشف بفعله هذا عن أجمل ما لدى الشعب النيوزلندي من صور إنسانية تضامنية يعجز اللسان عن التعبير عنها.
قدم القاتل الرصاص للمصلين فقدم النيوزلنديون آلاف الورود على بابي المسجدين تعبيراً عن تضامنهم، رسم بلون الدم صورة الحقد والكره على أرضية المسجدين فرسم الأطفال القلوب تعبيراً عن المحبة، وفي مقابل ما تركه وراءه من كلمات ومذكرات مليئة بالكره كتبوا مئات الكلمات عند باب المسجدين مليئة بمشاعر المحبة والإنسانية والأخوة.
استهدف القاتل مسجدين فإذا بمساجد نيوزلندا تشهد زيارة الآلاف من المتعاطفين مع الضحايا الذين يبحثون عن شتى السبل ليعبروا عن إدانتهم للجريمة ووقوفهم بجانب الضحايا والمسلمين في البلاد.
الجامعات والمؤسسات المختلفة وحتى ملاعب كرة القدم عبرت بطرق مختلفة عن التضامن والمواساة، اليهود يغلقون كُنسهم حداداً تضامناً مع المسلمين، الكنائس تفتح أبوابها للمسلمين في فترة غلق المساجد، رئيسة الوزراء تزور المكان معزية متضامنة مرتدية الحجاب في رسالة رمزية، ترفض ذكر اسم الإرهابي حتى لا تمنحه شرفاً وتكتفي بوصفه إرهابياً مجرماً، البرلمان يفتتح جلسته المخصصة لمناقشة الحادثة بالقرآن كتعبير تضامني.
إنها الإنسانية في أبهى صورها وأروع تجلياتها، مجتمع وشعب وحكومة ودولة بكافة أجهزتها يقدمون صورة مثالية للتضامن والتلاحم يندر ويصعب أن نجد بلداً مسلماً يقدمها.
لقد أعادت نيوزلندا ذلكم البلد الحضاري المسالم تقديم نفسها للعالم من جديد وللعالم الإسلامي بشكل خاص، فما فتئت تعليقات الإعجاب والثناء والانبهار بهذا البلد شعباً وحكومة تملأ الفضاء الأزرق الذي بث القاتل جريمته من خلاله وألهمت بطريقة تعاملها الكثيرين.
جُرحنا وصُدمنا بالحادث نعم .. لكن ما تبعه من مشاهد يبعث الأمل ويقدم دروساً للأجيال مفادها لن نستسلم لإرادة الإرهابيين ومنتجي خطاب الكراهية والتطرف وسالكي طريق العنف أينما كانوا وأياً كانوا .
أصداء الحادثة تجاوبت معها شعوب العالم فرأينا مشاهد من التضامن نبيلة للغاية وصوراً تعبيرية تفوق الوصف، يقف بريطاني على أبواب أحد المساجد ويرفع لافتة( أنتم إخواني صلوا وسأحميكم )، المساجد في أوروبا وأمريكا استقبلت العديد من الزوار المتضامنين، رسائل الإدانة والتضامن الوقفات والمظاهرات، التصريحات والخطابات، التغريدات وغير ذلك من الوسائل الكثيرة التي حملت رسائل المحبة والأخوة والتبرؤ من كل صور التطرف والإرهاب.
ورغم أن بعض وسائل الإعلام العالمية استحيت أو رفضت أن تصف العملية بأنها إرهابية مكتفية بالإدانة، وكذلك أيضاً تصريحات قلة من القيادات والزعامات التي اكتفت بالإدانة والاستنكار لكنها رفضت وصف العملية بأنها إرهابية وهنا يُطرح السؤال الكبير ما هو الإرهاب إذاً إذا لم يدخل فيه قتل 50 إنسان في دار عبادة وهم يصلون وفيهم أطفال مع بث الجريمة على المباشر بكل وحشيتها ؟! إلا أن المشهد العام كان إنسانياً تضامنياً بامتياز .
المستقبل ليس مفروشاً بالورود بلا شك ولكن علينا أن نغلب التفاؤل وأن نحفر في طريق المستقبل لنهيء الأرضية لغرس ورود المحبة والسلام والتعايش والصداقة.
هناك من يحنُّون إلى التأريخ يستدعون أحقاده وصراعاته وهناك من يطيرون بكل حادثة إرهابية فرحاً ليبرهنوا من خلالها صحة نظرياتهم حول المختلف معهم في الدين أو العرق المليئة بالكره والأحقاد، هناك في العالم الإسلامي من سيفسر حادثة نيوزلندا الإرهابية على أنها امتداد لصراع التأريخ وحروب الاستعمار والحروب الصليبية لأن هؤلاء لم يستطيعوا الخروج من الماضي كما أن هناك في الغرب من استعمل حوادث الإرهاب في فرنسا وبلجيكا وغيرها كفرصة للتخويف من الإسلام كله ومن المسلمين أجمعين ولصق الإرهاب بالإسلام وحده، وفي هذا الصدد فقد كان للبابا فرانشيسكو بابا الفاتيكان تصريحات حكيمة كعادته حين رفض بشدة الربط بين الإسلام والإرهاب عام 2016 قائلاً: (لا أعتقد أنه من الصواب الربط بين الإسلام والعنف). وهو الذي قال عقب حادث نيوزلندا : أعبّر عن قربي من أخوتنا المسلمين، وأضاف أنه يجدد النداء للاتحاد بالصلاة وأفعال سلام لمواجهة الكراهية والعنف.
هناك من يزرعون الشوك في طريق تعايش الشعوب وعشاق السلام لكنهم قلة قليلة منبوذة، فلا ينبغي أن نستسلم لهم أبداً بل يجب أن تكون كل محطة عنف فرصة لكي يتداعى العقلاء والمفكرون وصناع القرار والزعامات الدينية للوقوف أمام كل أسباب العنف والإرهاب دون تردد أو تحيز، او استهانة بأي سبب من الأسباب.
لا تمنحوا دعاة الكراهية والعنف فرصة لأن يستمتعوا باستمرار هذا المسلسل وليكن لنا في تجربة الشعب النيوزلندي العظيم خير مثال فلا زال يبهرنا كل يوم بالجديد.
أمين الحزمي
الجمعية الإسلامية الإيطالية للأئمة والمرشدين
20-03-2019